فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما دام الزمن يتناسب مع القوة، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله، إنما إلى الله، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلًا، فإنْ قلتَ: فلماذا استغرقتْ الرحلة ليلةَ وأخذت وقتًا؟ نقول: لأنه صلى الله عليه وسلم مرَّ بأشياء، ورأى أشياء، وقال، وسأل، وسمع، فهو الذي شغل هذا الوقت، أمّا الإسراء نفسه فلا زمنَ له.
لذلك قبل أن يخبرنا الحق تبارك وتعالى بهذه الحادثة العجيبة قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] أي: نزِّهه عن مشابهة غيره، كذلك مسألة نَقْل العرش في طرْفة عين لابد أن مَنْ فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه، فنقله بكُنْ التي لا تحتاج وقتًا ولا قوة، وما دام الأمر بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا: آمين.
وفي قوله للجن: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] تحدٍّ لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإنْ أراد الله منحني من القوة ما أتفوّق عليك به، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي.
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].
وليعلموا أنهم جهلاء، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.
والتحدي قد يكون بالعُلُوِّ، وقد يكون بالدُّنُو، كالذي قال لصاحبه: أنا دارس باريس دراسة دقيقة، وأستطيع أنْ أركب معك السيارة وأقول لك: أين نحن منها، وأمام أيّ محل، وأنا مُغْمض العينين، فقال الآخر: وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ} [النمل: 40] أي: العرش {مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] إما لأنه أقدره على الإتيان به بنفسه، أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب، فأتاه به، فهذه أو ذلك فضل من الله.
{ليبلوني} [النمل: 40] يختبرني {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] يعني: أشكر الله فأُوفَّق في هذا الاختبار؟ أم أكفر بنعمة الله فأخفق فيه؟ لأن الاختبار إنما يكون بنتيجته.
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألاَّ يلهيه جمال النعمة عن جلال واهبها ومُسْديها، فيقول مثلًا: إنما أوتيته على علم عندي.
وقوله: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] أي: أن الله تعالى لا يزيده شُكْرنا شيئًا، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد، فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه، وهو ثمرة شُكْره.
{وَمَن كَفَرَ} [النمل: 40] يعني: جحد النعمة ولم يشكر المنعم {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] أي: عن شكره {كَرِيمٌ} [النمل: 40] أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛ لأن نعمه تعالى كثيرة لا تُعَدُّ، وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه.
لذلك لما نتأمل قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد تكررت هذه العبارة بنصِّها في آيتين من كتاب الله، مما جعل البعض يرى فيها تكرارًا لا فائدة منه، لكن لو نظرنا إلى عَجُز كل منهما لوجدناه مختلفًا.
فالأولى تُختتم بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] والأخرى: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
إذن: فهما متكاملتان، لكلٍّ منهما معناها الخاص، فالأولى تبين ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عليه ويجحدها، وتضيف الأخرى أن الله تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به.
كما نلحظ في الآية: {وَإِن تَعُدُّواْ} [إبراهيم: 34] استخدم إنْ الدالة على الشك؛ لأن أحدًا لا يجرؤ على عَدِّ نِعَم الله في الكون، فهي فوق الحصر؛ لذلك لم يُقْدِم على هذه المسألة أحد، مع أنهم بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إلا نعم الله لم يتصَدَّ لأحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن تخصصت في الإحصاء.
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها، كما لم نجد مثلًا مَنْ تصدّى لإحصاء عدد الرمل في الصحراء. كما نقف عند قوله سبحانه: {نِعْمَتَ الله} [إبراهيم: 34] ولم يقُلْ: نِعَم الله، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة؛ لأن تحتها نِعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر.
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبارَ عقلٍ، واختبارَ إيمان: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا}. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)}.
جملة {قَالَ سَنَنظُرُ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر أي قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة {أَصَدَقْتَ} فيما قلت {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول {سننظر}، وأم هي المتصلة، وقوله: {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} أبلغ من قوله: أم كذبت؛ لأن المعنى: من الذين اتصفوا بالكذب، وصار خلقًا لهم.
والنظر: هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار، والكشف عن الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليدًا لهم واعتمادًا عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه.
ثم بيّن سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال: {اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أي إلى أهل سبأ.
قال الزجاج: في ألقه خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء وإثبات الواو، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء.
وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر.
وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء.
وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظًا، وحذفها مع كسر الهاء.
وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ.
وقوله: {بّكِتَابِي هذا} يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب، وأن يكون بدلًا منه، وأن يكون بيانًا له، وخصّ الهدهد بإرساله بالكتاب؛ لأنه المخبر بالقصة، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلًا للرسالة {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحّ عنهم، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسول الملوك، والمراد: التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع، وقيل: معنى التولي: الرجوع إليه، والأوّل أولى لقوله: {فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام.
{قَالَتْ} أي: بلقيس {يا أيها الملأ إِنّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد، فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ إلخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها، فعظمته إجلالًا لسليمان، وقيل: وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل: وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختومًا بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعًا.
ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب، فقالت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} أي: وإن ما اشتمل عليه من الكلام، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية، وبعد التسمية {أَن لا تَعْلُواْ عَلَيَّ} أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل: مصدرية، ولا ناهية، وقيل: نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أن لا تعلوا.
قرأ الجمهور: {إنه من سليمان وإنه} بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجرّ، وقرأ أبيّ: {إن من سليمان وإن بسم الله} بحذف الضميرين، وإسكان النونين على أنهما مفسرتان، وقرأ عبد الله بن مسعود: {وإنه من سليمان} بزيادة الواو، وروي ذلك أيضًا عن أبيّ، وقرأ أشهب العقيلي وابن السميفع: {أن لا تغلوا} بالغين المعجمة من الغلوّ، وهو تجاوز الحدّ في الكبر {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين للدين مؤمنين بما جئت به.
{قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} الملأ: أشراف القوم، والمعنى: يا أيها الأشراف أشيروا علي، وبيّنوا لي الصواب في هذا الأمر، وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حلّ لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها، وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إليّ، يا أيها الملأ أفتوني، وكرّر {قالت} لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب، واستجلاب خواطرهم، ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، فقالت: {مَا كُنتُ قاطعة أَمْرًا حتى تَشْهَدُونِ} أي ما كنت مبرمة أمرًا من الأمور حتى تحضروا عندي، وتشيروا عليّ.
فقولوا مجيبين لها {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في العدد والعدّة {وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ} عند الحرب، واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا.
ثم فوّضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها، وقوّة عقلها فقالوا: {والأمر إِلَيْكِ} أي موكول إلى رأيك ونظرك {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إذا دخلوا قرية من القرى خرّبوا مبانيها، وغيروا معانيها، وأتلفوا أموالها، وفرّقوا شمل أهلها {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها، وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة، وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتمّ لهم الملك، وتستحكم لهم الوطأة، وتتقرّر لهم في قلوبهم المهابة.
قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت، فقال سبحانه: {وكذلك يَفْعَلُونَ} أي مثل ذلك الفعل يفعلون.
قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} وقف تام، فقال الله عزّ وجلّ تحقيقًا لقولها {وكذلك يَفْعَلُونَ}، وقيل: هذه الجملة من تمام كلامها، فتكون من جملة مقول قولها، وعلى القول الأوّل تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
ثم لما قدّمت لهم هذه المقدّمة، وبيّنت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت لهم وجه الرأي عندها، وصرحت لهم بصوابه، فقالت: {وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} أي إني أجرّب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكًا أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبيًا لم يرضه ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين، فلا ينجينا منه إلاّ إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته؛ ولهذا قالت: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} الفاء للعطف على مرسلة، و{بم} متعلق ب {يرجع}، والمعنى: إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو ردّ فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طوّل المفسرون في ذكر هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة.
{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان، والمراد بهذا المضمر: الجنس، فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: {بم يرجع المرسلون} وقرأ عبد الله {فلما جاءوا سليمان} أي الرسل، وجملة {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والاستفهام للاستنكار أي قال منكرًا لإمدادهم له بالمال مع علوّ سلطانه وكثرة ماله.
وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية، والباقون بنونين من غير إدغام، وأما الياء، فإن نافعًا وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلًا ويحذفونها وقفًا، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة {فَمَا ءاتاني الله خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم} أي ما آتاني من النبوّة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته.
قرأ أبو عمرو ونافع وحفص {آتاني الله} بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف.
ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدّم، فقال: {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} توبيخًا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدًا من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوّة.